ثقوب غائرة في جسد اللوحة... دهشة أزلية أمام الثقوب الغامضة

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
03/04/2009 06:00 AM
GMT



تستحث آثار الجدران، والغيوم، والسطوح التي ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليها، الذهن لاكتشاف عشرات الأشكال، والحيوانات والإشارات، فكان عالم النفس الألماني روشاخ قد رفع هذا التكنيك إلى ما يشبه الآلية الثابتة لديه في استدرار الذكريات من اللاوعي، وأيضا جعلها كذلك الكثير من السورياليين هدفا للغرض نفسه، فقد كان ماكس ارنست يسميها  (frottage) ، وهو تكنيك كان يتبعه لصنع (حقل متعرجات) يقوم باستقرائه، واكتشاف شتى أشكال الكائنات والمسوخ فيه، وهو ما فعلته مجموعة من القصاصين حينما وضعوا صورة ثقب في جذع نخلة أمامهم وتركوا انفسهم يتأملونه بهدوء،

وقد تأمله من الرسامين كذلك الرسام محمد مهر الدين، فقد رافقت صور لوحاته وتخطيطاته نتاجهم، ولا تعلم ان كانت هذه محض صدفة، او كانت تخطيطا مقصودا، وهي في كلتا الحالتين جاء تزامن النص والرسوم في محلها تماما؛ فهذا الرسام واحد من أولئك الرسامين الذين تعاملوا مع الثقوب في جسد اللوحة باعتبارها عنصرا ثابتا في ذلك البناء، وهو ما كان يفعله عدد من الرسامين الذين كانت الثقوب بالنسبة إليهم عنصرا بنائيا جوهريا في بناء لوحتهم، أكثرهم كان راكان دبدوب، وهو نحات كان يتعاطى الرسم، فكان يتعامل مع تلك الثقوب تعاملا يشابه تعامل النحات هنري مور مع ثقوب منحوتاته التي كان يصنعها غائرة تخترق المنحوتات؛ فتخلق وشيجة تربط وجه المنحوتة بقفاها، هي «كائن تتواجه جهتاه على الفور» (فوكو، الكلمات والاشياء، مركز الانماء القومي 1990، ص 4) وهذا ما لا يتوفر في اللوحة ذات السطح الواحد، فكانت الثقوب في لوحة راكان دبدوب، ربما يمكن تصنيفها باعتبارها خيالا نحتيا يقع دون ملموسية النحت.
ان من تدارك حاجة الثقوب إلى وجهين ليتم الربط بينهما كان الرسام الراحل شاكر حسن آل سعيد، الرسام الذي كان يصنع الثقوب حقيقية في جسد اللوحة، وربما كانت فكرة هنري مور قد ظلت جاثمة عليه وهو يرحّل ثقوب ذلك النحات من حقل النحت إلى حقل الرسم ذي السطح الواحد، كان عليه إذن ان يخلق للوحة وجها ثانيا !!؛ وهو ما فعله هذا الرسام ذو الخيال الجامح والاستثنائي؛ فقد صنع لوحة ذات وجهين مثقوبة ثقوبا غائرة تربط بين وجهيها، فكان يغلفها بالزجاج الشفاف الذي لا يعتبره مادة مؤثرة، فتبدو اللوحة منحوتة مسطّحة، او لوحة بسطحين مثقوبة ثقوبا غائرة.

كان ثالث هؤلاء الرسامين: (صانعي الثقوب)، الرسام الذي استضافه ملحق الصباح: محمد مهر الدين؛  لترافق رسومه وتخطيطاته نصوص أولئك القصاصين، انه لم يكن يصنع الثقوب غائرة في جسد اللوحة، كما كان يفعل آل سعيد، كما لم يصنعها بوهم البعد الثالث، كما كان يفعل راكان دبدوب، بل كان يصنعها ثقوبا ببعدين تشكل فراغا (punch) ابيض يحتل غالبا أماكن مهمة في جسد اللوحة، تماما كالثقوب السوداء في عمق الكون، تلك التي حار الفلكيون في معرفتها ان كانت تؤدي إلى وجه أخر من الكون أم لا، فكان هدف مهر الدين من خلالها، ومن خلال الثلمات التي يرسمها بالأبيض، ليس الإيحاء بوجود سطح ثان للوحة؛ ومن ثم العمل على ربط سطحي تلك اللوحة، بل الإيحاء بوجود خرق في المساحة اللونية في سطح واحد لا ثان له، وبذلك فان ثقوب مهر الدين هي ثقوب ذات طبيعة تقنية، تخلق انقطاعات تماثل انقطاعات الشعر التي يملؤها القارئ.

ان هؤلاء الرسامين الثلاثة يستثمرون تلك الدهشة الإنسانية أمام الثقوب أيا كان شكلها، في حوار ثقوب «فان العينين، بنورهما المحدد تعكسان النور الأعظم الذي تنشره في السماء الشمس والقمر؛ والفم هو فينوسلان من خلاله تمرّ القبل وكلمات الحب؛ والأنف يعطي صورة صغيرة لصولجان جوبيتر وشارة ميكور» (فوكو، السابق، ص 41)، وهو ما فعله القصاصون المشاركون في ملحق الصباح، الذين جعلوا العنوان (ثقب في جذع نخلة) قاسما مشتركا ومضمارا دلاليا وفنيا، في عدد يوم الأربعاء 28 أيار 2008، وقد ساهم في هذا المشغل القصصي كل من القصاصين: قصي الخفاجي، ناصر قوطي، نوفل عبد الواحد، عباس البغدادي، باسم القطراني، خيري القروي، فقد دهش هؤلاء من مرأى الثقوب في جذع النخلة، تماما مثلما كانت دهشتي في البصرة، عندما كنت ذاهبا، أثناء حرب الثمان سنوات، إلى مديرية النشاط المدرسي، وكانت تقع خلف بهو الإدارة المحلية في منطقة الجبيلة، وكانت، وقتذاك تقع وسط منطقة زراعية يخترقها شارع تقع بناية البهو بدايته، وكانت شظايا القصف الإيراني على البصرة قد أحدثت ثقوبا عميقة في حيطان الكثير من البيوت وقتها، فكانت هنالك على حائط  إحدى البنايات المحاذية للشارع، ثقوب في حائطها المبني بالطابوق الأصفر الناصع الذي كان يبدو تحت أشعة الشمس بلون الذهب، او ربما كان بشكل أدق، بلون (الخريط)، ذلك المسحوق المتكتل الذي يصنعه المعدان في اهوار العراق من حبوب لقاح أزهار النباتات المائية التي تنمو في الاهوار، ويصب في قوالب تشابه (جبن العرب)، بدت لي تلك الثقوب وقتها مدهشة، فكنت اتاملها بعناية، كان ذهني مشغولا وقتها بالشظايا التي لم تستقر في الحائط ترى هل استقرت في قلب احدهم، لحظتها اطل عصفور علي براسه من ذلك الثقب، لقد كان ثمة عصفوران يبنيان عشهما في الثقب الذي صنعته الشظية، كان يبدو ذلك بالنسبة لي برهانا على ارادة الحياة في الحرص على نفسها، حرصها الذي يدفعها الى ان تخلق مقابل كل موت ولادة في الجانب الاخر منها، لم اكن قاصا لاكتب هذه الحكاية قصة، ولكني سردتها بما اعانتني عليه مقدرتي، كانت انسنة الثقوب اذن الية مشتركة للقصاصين هنا بالية التشاكل الصوري التي كان يتبعها الرسام ايف تانغي مثلا، حينما يتحول بين يديه الحصى الى حصى بشري يتدفق روحا انسانية!.

لقد وظف قصي الخفاجي الثقب في جسد النخلة ارتباطا مع الوعي الشعبي وما يسكن اللاوعي الشعبي كذلك من خوف من تلك الثقوب التي ترتبط بكائنات تسكن فيها؛ فكانت قصته حكاية ذات حكمة بالغة التقطير، حكمة شعب كامنة في لاوعيه الجمعي التي تجمعت على مدى قرون، بينما كان  عباس البغدادي مازال يتحرك ضمن قوانين هذا العالم لم يبرحه وهو يتطلع الى الاف الثقوب التي صنعتها القذائف الغائرةفي اجساد النخل؛ فكانت ملاذا، هذه المرة، لكائنات من نوع مختلف، كائنات بالغة الصغر كالنمل وحشرة الارضة؛ فكانت تبدو «كدم الثقوب الاصفر، يفور في الليل، ويهدا في النهار».

استعار ناصر قوطي سطح الرسم الى القصة فبدأ يحكي قصته نقلا عن سطح مرسوم بالقلم الرصاص، وشيئا فشيئا يتبدى الثقب في جذع النخلة الغاطس في الماء «وكأن نحاتا عمل بازميله ليالا طوالا حتى يخرج بتلك النتيجة المذهلة»، فصار الثقب الاسود عند ناصر قوطي «اقرب الى عين انسان... كانت عينا فارغة الا انها واحدة... تشاركني رؤية وحشة المكان.. تشاركني الرؤية...»، وكان يصف الثقوب الاخرى الصغيرة بأنها «ثقوب سود صغيرة كانت تستشري وتنتشر كالبهاق وهي تحيط بتلك العين الوحيدة»، وبذلك فقد اسس الراوي بينه وبين ذلك الثقب «الفة غريبة فيها من البوح والشجن كما لو بين كائنين حيين»، ذلك الثقب الذي تحول في الغربة الى ضوء فنار يتلمظ من بعيد.

تحولت ثقوب جذوع النخل عند باسم القطراني الى افواه تصدر انينا كان الحاج مصطفى العثمان قد «ادخل راسه في بعضها واسنانه تصطك ذهولا. الان بوسعه ان يسمع الشهقات ترن في اذنيه وهي حبيسة تلك الجذوع الجرداء»، ثقوب نشقت روح الحاج مصطفى العثمان، فصار النخل بعدها قد «عاش واثمر ولا يزال...».

لقد جعل القاص خيري القروي ثقب النخلة مرصدا له، اخرجه في النهاية من الجنة الى اتون الجحيم، بينما تحول الثقب في نخلة نوفل عبد الواحد نحو راس حبيبته، وكان في قصة كاظم حميد الزيدي ليس سوى ذكرى دموية في راس رجل كان فاقدا الذاكرة سنوات طوالا.
نرى اذن اية دهشة، وذهول ذلك الذي يكمن في لا وعي الانسان امام ثقب غامض، ثقب عميق في جذع نخلة!!.
نموذج:
الفتاة النحيفة ذات الساقين  الطويلتين
ضياء الجبيلي
ولدت في الزحام
(1)

أنا نخلة. غُرست في بستان غير الذي وجدتني فيه عندما كنت فسيلة صغيرة نمت بجوار نخلة أخرى نُسف رأسها بقنبلة في بداية الحرب الأولى. وكانت تلك هي أمي التي احتطب الفلاحون جذعها، وما تبقى منه تفحم في المواقد وتحت القدور في الليالي الشتائية الباردة، حيث يتجمع الأولاد الصغار في بيت الجدة « ضواهن « التي ما زالت تسرد لهم قصصاً بعضها مسلية وأخرى مخيفة عن الجنّ و» عبد الشطّ « وحكايات الألف ليلة وليلة البصرية المليئة بالطواعين والمقابر والحروب والفيضانات ورائحة الموت الذريع. لكنها نادراً ما تروي لهم حكايات جنسية تثير شبق بعضهم، فيمارسون بسببها العادة السرية أو يصيبهم شيء من الاستمناء أثناء النوم، أو عند تلصصهم على آبائهم وأمهاتهم وهم يمارسون طقوس ما بعد منتصف الليل. كنت النخلة الوحيدة التي ترعرعت في ذلك البستان، بين روائح الآس والرمان وزهر الجت والبربين، تحيطني أصناف المزروعات الأخرى من بامياء وباقلاء وطماطم وأشجار العنب و»التكي « والنبق والنارنج والليمون. بيد أن كل ذلك لم يدم وكدت أموت في الحرب الثانية عندما أصابتني شظية أحدثت ثقباً كبيراً في جذعي لم يزل حتى هذه اللحظة التي أحتضر فيها وأستعد للموت.

وفي يوم صيفي شديد الحرارة مات الفلاح الذي غرسني واهتم بي كثيراً كما لو كنت عمته بالفعل. فبكيت لفقده وسالت من جذعي الجريح دموع صمغية بلون العسل الغامق. وكان من سوء الحظ أن صار البستان من نصيب أكثر الورثة إهمالاً، ما ساهم في خرابه وتحوله إلى أرضٍ جرداء ومباحة للكلاب واللصوص والعاشقين على حدّ سواء.
(2)

كان من ضمن الأولاد المستمعين لحكايات الجدة « ضواهن « فتاة بيضاء جميلة إلا أنها نحيفة جداً ولها ساقان طويلتان جعلاها عرضة للسخرية وحماقات الأولاد المشاكسين في القرية وفي المدرسة. واتفق الحال على أن تكون هذه الفتاة ابنة للرجل المُهمِل الذي ورث البستان. لقد وصلت بشاعة الأفكار بهؤلاء الأولاد حداً جعلهم يشطحون بأخيلتهم بعيداً، وينسجون حول الفتاة المسكينة نكات جنسية ودعابات مخجلة منها: أنه من فرط الطول المعيب لساقيها صار باستطاعة المرء الولوج تحت ثيابها ورؤية الثقب الرابض بين فخذيها النحيفين، على أن يتم ذلك وقوفاً دون أن يكون ثمة حاجة للبروك. وحالما سمعت الفتاة هذه الدعابة الساخرة حزنت وبكت وبان الخجل على وجهها الممتص، ولم يكن أمامها حينذاك سوى أن تشتكي للجدة «ضواهن» تحرش هؤلاء الصبية بها وما قيل على ألسنتهم عنها. فحصل أن واستها الجدة وأكدت لها أمراً في غاية الأهمية، هو أنها حتماً تملك ذلك الشيء الذي يتحدثون عنه، باعتبار أنه الشكل الذي يميزها عنهم، ويؤكد أنوثتها وحقيقة أنها فتاة حقاً، دون أن يكون ثمة صحة لما تردد بينهم حول أمكانية رؤية ذلك الشيء وقوفاً، على الرغم من أنها طويلة فعلاً، إلا أن ثمة أمرا يجري الحديث حوله بصيغة المبالغة.
(3)

منذ ذلك اليوم وهذه الفتاة النحيفة مهتمة جداً بما كشفت عنه الجدة في وقت متأخر، دون أن تشعر قبل بلوغها الثانية عشرة أنها تتمتع بتلك الخاصية. حدث ذلك في وقت بدأ فيه أحدهم الاهتمام بها رغم أنها كانت طويلة كنخلة متيبسة لكنها لاتزال صامدة في وقوفها كما لو كانت أثراً شامخاً. وكانت هي الأخرى بدأت تشعر بأحاسيس غريبة لم تألفها من قبل، ثم سرعان ما فسرت ذلك على أنه حاجة ماسة لشخص ما تفضي إليه أسرارها. فحاولت أن تفعل ذلك مع زميلاتها اللاتي لا تقل ألسنتهنّ بذاءة عما يتفوّه به الصبية المشاكسون. إلا أن محاولتها تلك لم تفِ بالغرض حتى مع أكثر الفتيات تهذيباً. وظلت تخبئ أحاسيسها حتى جاء اليوم الذي أحست فيه بتدفق سائل لزج من الجوف الذي راحت تداعبه بأناملها النحيفة، ويغمر بلزوجته فخذيها الهزيلين، قبل أن تثمل ويغيب وعيها في اللحظة التي شعرت أثناءها بالانتشاء لأول مرة في حياتها. ظنّت الفتاة النحيفة ذات الساقين الطويلتين أنها جُرحت، أو أن شيئاً ما في أعماقها تحطم فجأة وتناثرت اشلاؤه، مخلفاً وراءه تلك الرعشة المريبة التي فقدت في إثرها الوعي تماماً وراحت تهذي كما لو كانت مبنّجة، إلى أن استفاقت لتجد نفسها غارقة في ذلك السائل الغريب ذي الرائحة العطنة. فسجنت نفسها ثم راحت تجهش بالبكاء فترة طويلة.
(4)

بعد سنوات صارت الفتاة النحيفة ذات الساقين الطويلتين تتردد كثيراً على بستان أبيها الخرب. حتى قيل أنها تواعد فيه شخصاً ما، تجلس هناك حتى الغروب متكئة عليَّ وتكتب أشياءً ثم تخبئ أوراقها في جوفي عند الثقب الذي أحدثته الشظية اللعينة في جذعي وتغادر المكان. فيأتي رجل تبدو على وجهه آثار الحروق فيأخذ رسائلها المخبأة في الثقب. يقرأها في ضوء أعواد الثقاب التي يشعلها كل حين، ثم يغادر مبتهجاً. في تلك الفترة من غراميات الفتاة النحيفة ذات الساقين الطويلتين حدثت أمور غريبة، منها أنها بدأت تشكو من ألم في أحشائها مع ضعف وصداع شديدين. وبعد فترة لوحظ الانتفاخ الغريب الذي بدأ يظهر على بطنها بشكل جعل ذويها يذعنون إلى ما تردد على ألسنة أهل القرية من أنها حبلى، ربما من الشخص الذي تواعده في البستان الخرب. وبالتالي وجب على القبيلة الاقتصاص منها وغسل عارهم بدمائها الفاسدة